السبت، 13 أبريل 2013

الهجرة إلى الله تعالى



بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(إبراهيم عليه السلام)
وبعض آيات من سورة الصافات
(16)

قال إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ

نستكمل بعون الله تعالى تلكم المسيرة الطاهرة لنبي الله (إبراهيم عليه السلام) ..فبعد أن نجاه الله تعالى من النار, عزم على الهجرة إلى الله تعالى..

لقد انتهى أمره مع أبيه وقومه . لقد أرادوا به الهلاك في النار التي أسموها الجحيم , وأراد الله أن يكونوا هم الأسفلين ; ونجاه من كيدهم أجمعين .
عندئذ استدبر إبراهيم مرحلة من حياته ليستقبل مرحلة ; وطوى صفحة لينشر صفحة:


وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ – 99  رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ – 100 فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ – 101  

هكذا . . إني ذاهب إلى ربي . . إنها الهجرة . وهي هجرة نفسية قبل أن تكون هجرة مكانية . هجرة يترك وراءه فيها كل شيء من ماضي حياته . يترك أباه وقومه وأهله وبيته ووطنه وكل ما يربطه بهذه الأرض , وبهؤلاء الناس . ويدع وراءه كذلك كل عائق وكل شاغل . ويهاجر إلى ربه متخففاً من كل شيء , طارحاً وراءه كل شيء , مسلماً نفسه لربه لا يستبقي منها شيئاً . موقن أن ربه سيهديه , وسيرعى خطاه , وينقلها في الطريق المستقيم .

إنها الهجرة الكاملة من حال إلى حال , ومن وضع إلى وضع , ومن أواصر شتى إلى آصرة واحدة لا يزحمها في النفس شيء . إنه التعبير عن التجرد والخلوص والاستسلام والطمأنينة واليقين .

وكان إبراهيم حتى هذه اللحظة وحيداً لا عقب له ; وهو يترك وراءه أواصر الأهل والقربى , والصحبة والمعرفة . وكل مألوف له في ماضي حياته , وكل ما يشده إلى الأرض التي نشأ فيها , والتي انحسم ما بينه وبين أهلها الذين ألقوه في الجحيم....
 فاتجه إلى ربه الذي أعلن أنه ذاهب إليه . اتجه إليه يسأله الذرية المؤمنة والخلف الصالح :

رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ.

واستجاب الله دعاء عبده الصالح المتجرد , الذي ترك وراءه كل شيء , وجاء إليه بقلب سليم . .

فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ.

هو إسماعيل - كما يرجح سياق السيرة والسورة - وسنرى آثار حلمه الذي وصفه ربه به وهو غلام . ولنا أن نتصور فرحة إبراهيم الوحيد المفرد المهاجر المقطوع من أهله وقرابته . لنا أن نتصور فرحته بهذا الغلام , الذي يصفه ربه بأنه حليم .

والآن آن أن نطلع على الموقف العظيم الكريم الفريد في حياة إبراهيم . بل في حياة البشر أجمعين . وآن أن نقف من سياق القصة في القرآن العظيم أمام المثل الموحي الذي يعرضه الله للأمة المسلمة من حياة أبيها إبراهيم . .
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ – 102
******

فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ.

يالله ! ويالروعة الإيمان والطاعة والتسليم . .
هذا إبراهيم الشيخ . المقطوع من الأهل والقرابة . المهاجر من الأرض والوطن . ها هو ذا يرزق في كبرته وهرمه بغلام . طالما تطلع إليه .
 فلما جاءه جاء غلاماً ممتازاً يشهد له ربه بأنه حليم .
وها هو ذا ما يكاد يأنس به , وصباه يتفتح , ويبلغ معه السعي , ويرافقه في الحياة . . ها هو ذا ما يكاد يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد , حتى يرى في منامه أنه يذبحه . ويدرك أنها إشارة من ربه بالتضحية .

 فماذا ? إنه لا يتردد , ولا يخالجه إلا شعور الطاعة , ولا يخطر له إلا خاطر التسليم . . نعم إنها إشارة . مجرد إشارة . وليست وحياً صريحاً , ولا أمراً مباشراً . ولكنها إشارة من ربه . . وهذا يكفي . . هذا يكفي ليلبي ويستجيب . ودون أن يعترض . ودون أن يسأل ربه . . لماذا يا ربي أذبح ابني الوحيد ?!

ولكنه لا يلبي في انزعاج , ولا يستسلم في جزع , ولا يطيع في اضطراب . . كلا إنما هو القبول والرضى والطمأنينة والهدوء . يبدو ذلك في كلماته لابنه وهو يعرض عليه الأمر الهائل في هدوء وفي اطمئنان عجيب:

قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى.


فهي كلمات المالك لأعصابه , المطمئن للأمر الذي يواجهه , والواثق بأنه يؤدي واجبه . وهي في الوقت ذاته كلمات المؤمن , الذي لا يهوله الأمر فيؤديه , في اندفاع وعجلة ليخلص منه وينتهي , ويستريح من ثقله على أعصابه !

والأمر شاق - ما في ذلك شك - فهو لا يطلب إليه أن يرسل بابنه الوحيد إلى معركة . ولا يطلب إليه أن يكلفه أمراً تنتهي به حياته . . إنما يطلب إليه أن يتولى هو بيده . يتولى ماذا ? يتولى ذبحه . . وهو - مع هذا - يتلقى الأمر هذا التلقي , ويعرض على ابنه هذا العرض ; ويطلب إليه أن يتروى في أمره , وأن يرى فيه رأيه !

إنه لا يأخذ ابنه على غرة لينفذ إشارة ربه . وينتهي . إنما يعرض الأمر عليه كالذي يعرض المألوف من الأمر . فالأمر في حسه هكذا .

 ربه يريد . فليكن ما يريد . على العين والرأس . وابنه ينبغي أن يعرف . وأن يأخذ الأمر طاعة وإسلاماً , لا قهراً واضطراراً . لينال هو الآخر أجر الطاعة , وليسلم هو الآخر ويتذوق حلاوة التسليم !

إنه يحب لابنه أن يتذوق لذة التطوع التي ذاقها ; وأن ينال الخير الذي يراه هو أبقى من الحياة وأقنى . .

فماذا يكون من أمر الغلام , الذي يعرض عليه الذبح , تصديقاً لرؤيا رآها أبوه ?
إنه يرتقي إلى الأفق الذي ارتقى إليه من قبل أبوه:

قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ.
.
إنه يتلقى الأمر لا في طاعة واستسلام فحسب . ولكن في رضى كذلك وفي يقين . .

( يَا أَبَتِ ) . . في مودة وقربى . فشبح الذبح لا يزعجه ولا يفزعه ولا يفقده رشده . بل لا يفقده أدبه ومودته .
( افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ) . . فهو يحس ما أحسه من قبل قلب أبيه . يحس أن الرؤيا إشارة . وأن الإشارة أمر . وأنها تكفي لكي يلبي وينفذ بغير لجلجة ولا تمحل ولا ارتياب .

ثم هو الأدب مع الله , ومعرفة حدود قدرته وطاقته في الاحتمال ; والاستعانة بربه على ضعفه ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية , ومساعدته على الطاعة :

سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ.

ولم يأخذها بطولة . ولم يأخذها شجاعة . ولم يأخذها اندفاعاً إلى الخطر دون مبالاة .
ولم يظهر لشخصه ظلاً ولا حجماً ولا وزناً . . إنما أرجع الفضل كله لله تعالى إن هو أعانه على ما يطلب إليه , وأصبره على ما يراد به :

ونستكمل هذه المشاهد الحية بعون الله تعالى في اللقاء القادم.

كانت مصادر التفسير في هذا اللقاء:
 ( في ظلال القرآن )

*******

فإلى الملتقى إن شاء الله تعالى..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق