السبت، 22 يونيو 2013

مرحلة تبليغ الرسالة

بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(موسى عليه السلام)
وبعض آيات من سورة القصص
(8)

مرحلة تبليغ الرسالة


إن الرسالة تكليف ضخم شاق متعدد الجوانب والتبعات ; يحتاج صاحبه إلى زاد ضخم من التجارب والإدراك والمعرفة والتذوق في واقع الحياة العملي , إلى جانب هبة الله اللدنية , ووحيه وتوجيهه للقلب والضمير .
ورسالة موسى بالذات قد تكون أضخم تكليف تلقاه بشر - عدا رسالة محمد . [ صلى الله عليه وسلم ] .. فموسى مرسل إلى فرعون الطاغية المتجبر , أعتى ملوك الأرض في زمانه , وأقدمهم عرشا , وأثبتهم ملكا , وأعرقهم حضارة , وأشدهم تعبدا للخلق واستعلاء في الأرض .

وموسى مرسل لاستنقاذ قوم قد شربوا من كؤوس الذل حتى استمرأوا مذاقه , فمردوا عليه واستكانوا دهرا طويلا . والذل يفسد الفطرة البشرية حتى تأسن وتتعفن ; ويذهب بما فيها من الخير والجمال والتطلع ومن الاشمئزاز من العفن والنتن والرجس والدنس . فاستنقاذ قوم كهؤلا ء عمل شاق عسير .

وهو مرسل إلى قوم لهم عقيدة قديمة ; انحرفوا عنها , وفسدت صورتها في قلوبهم . فلا هي قلوب خامة تتقبل العقيدة الجديدة ببراءة وسلامة ; ولا هي باقية على عقيدتها القديمة .
 ومعالجة مثل هذه القلوب شاقة عسيرة . والالتواءات فيها والرواسب والانحرافات تزيد المهمة مشقة وعسرا .

وهو في اختصار مرسل لإعادة بناء أمة , بل لإنشائها من الأساس . فلأول مرة يصبح بنو إسرائيل شعبا مستقلا , له حياة خاصة , تحكمها رسالة . وإنشاء الأمم عمل ضخم شاق عسير .

********

رفض فرعون وآله للدعوة وإهلاكهم


فَلَمَّا جَاءهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36)
وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)


*********


فَلَمَّا جَاءهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ..

وكأنما هي ذات القولة التي يقولها المشركون لمحمد [ صلى الله عليه وسلم ] في مكة يومذاك . . ( ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين.. 36 القصص ). . فهي المماراة في الحق الواضح الذي لا يمكن دفعه . المماراة المكرورة حيثما واجه الحق الباطل فأعيا الباطل الجواب . إنهم يدعون أنه سحر , ولا يجدون لهم حجة إلا أنه جديد عليهم , لم يسمعوا به في آبائهم الأولين !

وهم لا يناقشون بحجة , ولا يدلون ببرهان , إنما يلقون بهذا القول الغامض الذي لا يحق حقا ولايبطل باطلا ولا يدفع دعوى .
فأما موسى - عليه السلام - فيحيل الأمر بينه وبينهم إلى الله . فما أدلوا بحجة ليناقشها , ولا طلبوا دليلا فيعطيهم إنما هم يمارون كما يماري أصحاب الباطل في كل مكان وفي كل زمان , فالاختصار أولى والإعراض أكرم , وترك الأمر بينه وبينهم إلى الله:

وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ.

وهو رد مؤدب مهذب , يلمح فيه ولا يصرح . وفي الوقت ذاته ناصع واضح , مليء بالثقة والطمأنينة إلى عاقبة المواجهة بين الحق والباطل . فربه أعلم بصدقه وهداه , وعاقبة الدار مكفولة لمن جاء بالهدى , والظالمون في النهاية لا يفلحون . سنة الله التي لا تتبدل . وإن بدت ظواهر الأمور أحيانا في غير هذا الإتجاه . سنة الله يواجه بها موسى قومه ويواجه بها كل نبي قومه .

وكان رد فرعون على هذا الأدب وهذه الثقة ادعاء وتطاولا , ولعبا ومداورة , وتهكما وسخرية :

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ.

يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري . . كلمة فاجرة كافرة , يتلقاها الملأ بالإقرار والتسليم . ويعتمد فيها فرعون على الأساطير التي كانت سائدة في مصر من نسب الملوك للآلهة . ثم على القهر , الذي لا يدع لرأس أن يفكر , ولا للسان أن يعبر . وهم يرونه بشرا مثلهم يحيا ويموت , ولكنه يقول لهم هذه الكلمة فيسمعونها دون اعتراض ولا تعقيب !

ثم يتظاهر بالجد في معرفة الحقيقة , والبحث عن إله موسى , وهو يلهو ويسخر: ( يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ). . في السماء كما يقول ! وبلهجة التهكم ذاتها يتظاهر بأنه شاك في صدق موسى , ولكنه مع هذا الشك يبحث وينقب ليصل إلى الحقيقة : (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) !

وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39)
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ (41)
وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)

********


وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ.

 ( فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم ).

هكذا في اختصار حاسم . أخذ شديد ونبذ في اليم . نبذ كما تحذف الحصاة أو كما يرمى بالحجر . اليم الذي ألقي في مثله موسى الطفل الرضيع , فكان مأمنا وملجأ . وهو ذاته الذي ينبذ فيه فرعون الجبار وجنوده فإذا هو مخافة ومهلكة . فالأمن إنما يكون في جناب الله , والمخافة إنما تكون في البعد عن ذلك الجناب . ( فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ). .
فهي عاقبة مشهودة معروضة للعالمين . وفيها عبرة للمعتبرين , ونذير للمكذبين . وفيها يد القدرة تعصف بالطغاة والمتجبرين في مثل لمح البصر , وفي أقل من نصف سطر !

وفي لمحة أخرى يجتاز الحياة الدنيا ; ويقف بفرعون وجنوده في مشهد عجيب . . يدعون إلى النار , ويقودون إليها الأتباع والأنصار:

وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ.

فيا بئساها دعوة ! ويا بئساها إمامة !

( ويوم القيامة لا ينصرون ). .

فهي الهزيمة في الدنيا , وهي الهزيمة في الآخرة , جزاء البغي والاستطالة . وليست الهزيمة وحدها , إنما هي اللعنة في هذه الأرض , والتقبيح في يوم القيامة:

وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ.

ولفظة ( المقبوحين ) ترسم بذاتها صورة القبح والفضيحة والتشنيع , وجو التقزز والاشمئزاز . ذلك في مقابل الاستعلاء والاستكبار في الأرض , وفتنة الناس بالمظهر والجاه , والتطاول على الله وعلى عباد الله .

*******

أبعاد رسالة موسى

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.

ويعبر السياق هنا مرحلة الخروج ببني إسرائيل من مصر , وما حدث خلالها من أحداث , ليعجل بعرض نصيب موسى بعد عرض نصيب فرعون :
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.

هذا نصيب موسى . وهو نصيب عظيم . وهذه عاقبة موسى . وهي عاقبة كريمة . . كتاب من الله يبصر الناس كأنه بصائرهم التي بها يهتدون , ( وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون ). . يتذكرون كيف تتدخل يد القدرة بين الطغاة والمستضعفين , فتختم للطغاة بالهلاك والتدمير , وتختم للمظلومين بالخير والتمكين .

وهكذا تنتهي قصة موسى وفرعون في هذه السورة . شاهدة بأن الأمن لا يكون إلا في جانب الله . وأن المخافة لا تكون إلا في البعد عن الله . ذلك إلى تدخل يد القدرة واضحة متحدية للطغيان والطغاة , حين تصبح القوة فتنة ...

********

كانت مصادر تفسير هذا اللقاء :
(في ظلال القرآن)  (التفسير الميسر)  (تفسير السعدي)  (تفسير الجلالين)


وإلى الملتقى إن شاء الله تعالى


السبت، 15 يونيو 2013

مرحلة التكليف

بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(موسى عليه السلام)
وبعض آيات من سورة القصص
(7)

مرحلة التكليف

نستكمل بعون الله تعالى الرحلة المباركة لنبي الله موسى عليه السلام.. وفي هذه المرحلة الهامة- وهي مرحلة التكليف بالرسالة والذهاب والعودة إلى فرعون- وبداية الدعوة إلى الإيمان بالخالق الأعظم الله جل جلاله...وترك عبادة الطاغوت والمتمثلة هنا في عبادة فرعون..

والقرآن العظيم يجلي لنا تلك المشاهد الحية لتكون لنا دليلا حيا على أن المسلمين هم حملة رسالات الله من لدن أدم إلى خاتمهم نبينا محمد صلوات ربي وسلامه عليه وعلى جميع الرسل والأنبياء.
وأن وعد الله حق .

إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ.
قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ  - 85 القصص

فالهجرة تماثل الهجرة والعودة أتية حتما لأنه وعد الله تعالى.
******


 فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ - 29

فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ – 30

وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّىٰ مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ۚ يَا مُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ – 31

اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ – 32

قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ – 33

وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ – 34

قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا ۚ بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ – 35

******

وها هو موسى عائد ليتلقى في الطريق ما لم يخطر له على بال . ليناديه ربه ويكلمه , ويكلفه النهوض بالمهمة التي من أجلها وقاه ورعاه , وعلمه ورباه .

مهمة الرسالة إلى فرعون وملئه , ليطلق له بني إسرائيل يعبدون ربهم لا يشركون به أحدا ويرثون الأرض التي وعدهم ليمكن لهم فيها ثم ليكون لفرعون وهامان وجنودهما عدوا وحزنا , ولتكون نهايتهم على يديه كما وعد الله حقا....

﴿ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ ﴾  كما هو الظن بموسى ووفائه، اشتاق إلى الوصول إلى أهله ووالدته وعشيرته، ووطنه، وعلم من طول المدة، أنهم قد تناسوا ما صدر منه. 
﴿ سَارَ بِأَهْلِهِ ﴾ قاصدا مصر، ﴿ آنَسَ ﴾ أي: أبصر ﴿ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ﴾ وكان قد أصابهم البرد، وتاهوا الطريق.

فلما أتاها نودي ﴿ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ فأخبر بألوهيته وربوبيته، ويلزم من ذلك، أن يأمره بعبادته، وتألهه، كما صرح به في الآية الأخرى ﴿ فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي - طه14

﴿ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ﴾ فألقاها ﴿ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ ﴾ تسعى سعيا شديدا .. ﴿ كَأَنَّهَا جَانٌّ ﴾ ذَكَرُ الحيات العظيم، 
﴿ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ﴾ أي : يرجع، لاستيلاء الروع على قلبه،
 فقال اللّه له : ﴿ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ ﴾ وهذا أبلغ ما يكون في التأمين، وعدم الخوف.

فإن قوله: ﴿ أَقْبِلْ ﴾ يقتضي الأمر بإقباله، ويجب عليه الامتثال، ولكن قد يكون إقباله، وهو لم يزل في الأمر المخوف، فقال : ﴿ وَلَا تَخَفْ ﴾ أمر له بشيئين، إقباله، وأن لا يكون في قلبه خوف،

 ولكن يبقى احتمال، وهو أنه قد يقبل وهو غير خائف، ولكن لا تحصل له الوقاية والأمن من المكروه،
فقال الله تعالى : ﴿ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ ﴾ فحينئذ اندفع المحذور من جميع الوجوه،

 فأقبل موسى عليه السلام غير خائف ولا مرعوب، بل مطمئنا، واثقا بخبر ربه، قد ازداد إيمانه، وتم يقينه، فهذه آية، أراه اللّه إياها قبل ذهابه إلى فرعون، ليكون على يقين تام، فيكون أجرأ له، وأقوى وأصلب.


ثم أراه الآية الأخرى فقال تعالى : ﴿ اسْلُكْ يَدَكَ ﴾ أي: أدخلها ﴿ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ﴾  فسلكها وأخرجها.

﴿ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ﴾ أي ضم جناحك وهو عضدك إلى جنبك يزول عنك الرهب والخوف. 
﴿ فَذَانِكَ ﴾ انقلاب العصا حية، وخروج اليد بيضاء من غير سوء ﴿ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ ﴾ أي: حجتان قاطعتان من اللّه، ﴿ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ فلا يكفيهم مجرد الإنذار وأمر الرسول إياهم، بل لا بد من الآيات الباهرة، إن نفعت.

قال موسى عليه السلام معتذرا من ربه، وسائلا له المعونة على ما حمله، وذاكرا الموانع التي فيه، ليزيل ربه ما يحذره منها.

 ﴿ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا  فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ - وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا ﴾ أي : معاونا ومساعدا ﴿ يُصَدِّقُنِي ﴾ فإنه مع تضافر الأخبار يقوى الحق فأجابه اللّه إلى سؤاله فقال : ﴿ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ﴾ أي : نعاونك به ونقويك.

ثم أزال عنه محذور القتل، فقال: ﴿ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا ﴾ أي: قوة إقناع وتسلطا، وتمكنا من الدعوة، بالحجة، والهيبة الإلهية من عدوهما لهما، 

﴿ فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا ﴾ وذلك بسبب آياتنا، وما دلت عليه من الحق، وما أزعجت به من باشرها ونظر إليها، فهي التي بها حصل لكما السلطان، واندفع بها عنكم، كيد عدوكم وصارت لكم أبلغ من الجنود، أولي الْعَدَدِ والْعُدَدِ.

﴿ أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ﴾ وهذا وعد لموسى في ذلك الوقت، وهو وحده فريد، وقد رجع إلى بلده، بعد ما كان شريدا، فلم تزل الأحوال تتطور، والأمور تنتقل، حتى أنجز الله له موعوده، ومكنه من العباد والبلاد، وصار له ولأتباعه، الغلبة والظهور.


********
كانت مصادر تفسير هذا اللقاء :
(في ظلال القرآن)  (التفسير الميسر)  (تفسير السعدي)  (تفسير الجلالين)


وإلى الملتقى إن شاء الله تعالى


الجمعة، 7 يونيو 2013

إستكمال مرحلة الشباب- مدين - القوة والشهامة


بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(موسى عليه السلام)
وبعض آيات من سورة القصص
(6)

مرحلة الشباب

نستكمل بعون الله تعالى الرحلة المباركة لنبي الله موسى عليه السلام..حيث توجه إلى مدينة مدين..


وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَىٰ رَبِّيۤ أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ -22

وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن
 دُونِهِمُ ٱمْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ ٱلرِّعَآءُ
وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ – 23

فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى ٱلظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ – 24  

اتجه موسى ـ عليه السلام ـ فريداً وحيداً عبر الصحراء في اتجاه مدين في جنوبي الشام وشمالي الحجاز. مسافات شاسعة، وأبعاد مترامية، لا زاد ولا استعداد، فقد خرج من المدينة خائفاً يترقب،

*******

ومرة أخرى نجد موسى ـ عليه السلام ـ في قلب المخافة، بعد فترة من الأمن. بل من الرفاهية. ونجده وحيداً مجرداً من قوى الأرض الظاهرة جميعاً، يطارده فرعون وجنده، ويبحثون عنه في كل مكان، لينالوا منه اليوم ما لم ينالوه منه طفلاً... 
ولكن اليد التي رعته وحمته هناك ترعاه وتحميه هنا، ولا تسلمه لأعدائه أبداً. فها هو ذا يقطع الطريق الطويل، ويصل إلى حيث لا تمتد إليه اليد الباطشة بالسوء :

********

لقد انتهى به السفر الشاق الطويل إلى ماء لمدين. وصل إليه وهو مجهد. وإذا هو يطلع على مشهد لا تستريح إليه النفس ذات المروءة، السليمة الفطرة، كنفس موسى ـ عليه السلام ـ وجد الرعاة الرجال يوردون أنعامهم لتشرب من الماء , ووجد هناك امرأتين تمنعان غنمهما عن ورود الماء. والأولى عند ذوي المروءة والفطرة السليمة، أن تسقي المرأتان وتصدرا بأغنامهما أولاً، وأن يفسح لهما الرجال ويعينوهما ...

*****

ويعود بنا الحديث عن مكانة المرأة في الإسلام . حيث العناية بها  وتكريمها....

وروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : ما أكرم النساء إلا كريم ، و لا أهانهن إلا لئيم ...

*****

ولم يقعد موسى الهارب المطارد، المسافر المكدود ، ليستريح  وهو يشهد هذا المنظر المنكر المخالف للمعروف. بل تقدم للمرأتين يسألهما عن أمرهما الغريب :

قال: ما خطبكما ؟..
قالتا : لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير...

فأَطلعتاه على سبب انزوائهما وتأخرهما وذودهما لغنمهما عن الورود. إنه الضعف، فهما امرأتان وهؤلاء الرعاة رجال. وأبوهما شيخ كبير لا يقدر على الرعي ومجالدة الرجال...

وثارت نخوة موسى ـ عليه السلام ـ وفطرته السليمة. فتقدم لإقرار الأمر في نصابه.
 تقدم ليسقي للمرأتين أولاً، كما ينبغي أن يفعل الرجال ذوو الشهامة وهو غريب في أرض لا يعرفها، ولا سند له فيها ولا ظهير. وهو مكدود قادم من سفر طويل بلا زاد ولا استعداد. وهو مطارد ، من خلفه أعداء لا يرحمون. ولكن هذا كله لا يقعد به عن تلبية دواعي المروءة والنجدة والمعروف، وإقرار الحق الطبيعي الذي تعرفه النفوس المؤمنة :

فسقى لهما .

مما يشهد بنبل هذه النفس التي صنعت على عين الله تعالى. كما تدل على قوته التي ترهب حتى وهو في إعياء السفر الطويل. ولعلها قوة نفسه التي أوقعت في قلوب الرعاة رهبته أكثر من قوة جسمه. فإنما يتأثر الناس أكثر بقوة الأرواح والقلوب....

ثم تولى إلى الظل فقال : رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير....

رب إني في خيرك الدائم ونعمك التي لا تعد ولا تحصى.. رب إني فقير..

******

فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى ٱسْتِحْيَآءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ ٱلْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ – 25

قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يٰأَبَتِ ٱسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ ٱسْتَأْجَرْتَ ٱلْقَوِيُّ ٱلأَمِينُ - 26

قَالَ إِنِّيۤ أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ٱبْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ, سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ
اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ – 27  

قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا ٱلأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ - 28  

******

وما نكاد نستغرق مع موسى ـ عليه السلام ـ في مشهد المناجاة حتى يعجل السياق بمشهد الفرج، معقباً في التعبير بالفاء،
فجاءته إحداهما تمشي على استحياء. قالت: إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا..

ونلاحظ هنا أخلاق الحياء عند الفتاة...
وقد جاءته ( تمشي على استحياء ) مشية الفتاة الطاهرة الفاضلة العفيفة النظيفة حين تلقى الرجال. ( على استحياء ). في غير ما تبذل ولا تبرج ولا تبجح ولا إغواء. جاءته لتنهي إليه دعوة في كلمات معدودة ( إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ). فمع الحياء الإبانة والدقة والوضوح؛
ويستجيب "موسى" للقاء الشيخ الكبير.

( فلما جاءه وقص عليه القصص، قال: لا تخف. نجوت من القوم الظالمين )

فقد كان موسى في حاجة إلى الأمن؛ كما كان في حاجة إلى الطعام والشراب. ولكن حاجة نفسه إلى الأمن كانت أشد من حاجة جسمه إلى الزاد. ومن ثم أبرز السياق في مشهد اللقاء قول الشيخ الوقور: ( لا تخف ) فجعلها أول لفظ يعقب به على قصصه ليلقي في قلبه الطمأنينة، ويشعره بالأمان. ثم بين وعلل: ( نجوت من القوم الظالمين ) فلا سلطان لهم على مدين، ولا يصلون لمن فيها بأذى ولا ضرار.

( قالت: إحداهما: يا أبت استأجره. إن خير من استأجرت القوي الأمين ).

إنها وأختها تعانيان من رعي الغنم ، ومن مزاحمة الرجال على الماء، ومن الاحتكاك الذي لا بد منه للمرأة التي تزاول أعمال الرجال. وهي تتأذى وأختها من هذا كله؛ وتريد أن تكون امرأة تأوي إلى بيتها؛ والمرأة العفيفة الروح ، النظيفة القلب، السليمة الفطرة ، لا تستريح لمزاحمة الرجال ، ولا للتبذل الناشئ من هذه المزاحمة...

وها هو ذا شاب قوى أمين. رأت من قوته ما يهابه الرعاء فيفسحون له الطريق ويسقي لهما. ورأت من أمانته ما يجعله عف اللسان والنظر حين توجهت لدعوته.
فهي تشير على أبيها باستئجاره ليكفيها وأختها مؤنة العمل والاحتكاك والتبذل. وهو قوي على العمل، أمين على المال. فالأمين على العرض هكذا أمين على ما سواه.
فالعفة تتضح في التصرف العادي البسيط بلا تكلف ولا اصطناع.

واستجاب الشيخ لاقتراح ابنته. ولعله أحس من نفس الفتاة ونفس موسى ثقة متبادلة، وميلاً فطرياً سليماً، صالحاً لبناء أسرة.

( قال: إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين، على أن تأجرني ثماني حجج. فإن أتممت عشراً فمن عندك. وما أريد أن أشق عليك. ستجدني إن شاء الله من الصالحين )

وهكذا في بساطة وصراحة عرض الرجل إحدى ابنتيه من غير تحديد ـ
ولقد كان الآباء يعرضون بناتهم على الرجال على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
 بل كانت النساء تعرض نفسها على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو من يرغب في تزويجهن منهم.

كان يتم هذا في صراحة ونظافة وأدب جميل، لا تخدش معه كرامة ولا حياء..
عرض عمر ـ رضي الله عنه: ابنته حفصة على أبي بكر فسكت وعلى عثمان فاعتذر، فلما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا طيب خاطره، عسى أن يجعل الله لها نصيباً فيمن هو خير منهما. ثم تزوجها ـ صلى الله عليه وسلم .
وعرضت امرأة نفسها على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاعتذر لها. فألقت إليه ولاية أمرها يزوجها ممن يشاء. فزوجها رجلاً لا يملك إلا سورتين من القرآن، علمها إياهما فكان هذا صداقها.

وبمثل هذه البساطة والوضاءة سار المجتمع الإسلامي يبني بيوته ويقيم كيانه. في غير تصنع ولا التواء.

وهكذا صنع الشيخ الكبير ـ صاحب موسى ـ فعرض على موسى ذلك العرض واعداً إياه ألا يشق عليه ولا يتعبه في العمل؛ راجياً بمشيئة الله أن يجده موسى من الصالحين في معاملته ووفائه.
وهو أدب جميل في التحدث عن النفس وفي جانب الله. فهو لا يزكي نفسه، ولا يجزم بأنه من الصالحين. ولكن يرجو أن يكون كذلك، ويكل الأمر في هذا لمشيئة الله.

وقبل موسى العرض وأمضى العقد؛ في وضوح ودقة، وأشهد الله فهو الشهيد الموكل بالعدل بين المتعاقدين. وكفى بالله وكيلاً.

( قال: ذلك بيني وبينك. أيما الأجلين قضيت فلا عدوان عليّ. والله على ما نقول وكيل )

سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الأجلين قضى موسى ؟ قال : أبعدهما وأطيبهما.
المصدر: صحيح البخاري – عن عبدالله بن عباس - الصفحة أو الرقم: 2684

***********
كانت مصادر تفسير هذا اللقاء :
(في ظلال القرآن)  (التفسير الميسر)  (تفسير السعدي)  (تفسير الجلالين)


وإلى الملتقى إن شاء الله تعالى