الجمعة، 31 مايو 2013

موسى عليه السلام-5



بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(موسى عليه السلام)
وبعض آيات من سورة القصص
(5)

مرحلة الشباب

وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)
فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ (22)

**********
إن القتل شئ بشع , أدرك "موسى" على الفور فداحة هذا الأمر الذي لم يقصده أصلا , وأصيب بالغم ..

قال تعالى: وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ..40 طه

فالإنسان في فسحة من دينه مالم يصب دما كما ورد في الحديث الشريف ...

ونقرأ ذلك ونتعجب اليوم على هذا الكم الهائل من القتلى يوميا عمدا مع سبق الإصرار والترصد لأبرياء من نساء وأطفال وشيوخ , فلا يدري القاتل لماذا يقتل ولا يدري المقتول لماذا قتل.

*******

مشهد جديد . رجل يجيء إلى موسى من أقصى المدينة , يحذره ائتمار الملأ من قوم فرعون به , وينصح بالهرب من المدينة إبقاء على حياته:

وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ.

إنه قدر الله ومشيئته لإنقاذ موسى في اللحظة المطلوبة ....
لقد عرف الملأ من قوم فرعون , وهم رجال حاشيته وحكومته والمقربون إليه أنها فعلة موسى .
وما من شك أنهم أحسوا فيها بشبح الخطر . فهي فعلة طابعها الثورة على الظلم , والانتصار لبني إسرائيل .
 وإذن فهي ظاهرة خطيرة تستحق التآمر . ولو كانت جريمة قتل عادية ما استحقت أن يشتغل بها فرعون والملأ والكبراء .

ونلاحظ قدرة الله تعالى في إنقاذ موسى عليه السلام..
 جاء واحدا من الملأ . الأرجح أنه الرجل المؤمن من آل فرعون الذي يكتم إيمانه , والذي جاء ذكره في سورة [ غافر ] ساقه الله ليسعى إلى موسى ( من أقصى المدينة ) في جد واهتمام ومسارعة , ليبلغه قبل أن يبلغه رجال فرعون : ( إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك , فاخرج إني لك من الناصحين ). .

فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ..

خرج منزعجاً بنذارة الرجل الناصح، لم يتزود ولم يتخذ دليلاً. ولكن نلاحظ شيئا عظيما آلا وهو التعلق بربه مستسلما له...

التوجه المباشر بالطلب إلى الله , والتطلع إلى حمايته ورعايته , والالتجاء إلى حماه في المخافة , وترقب الأمن عنده والنجاة: ( رب نجني من القوم الظالمين ). .

ثم يتبعه السياق خارجا من المدينة , خائفا يترقب , وحيدا فريدا , غير مزود إلا بالاعتماد على مولاه ; والتوجه إليه طالبا عونه وهداه:

وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ..

ومرة أخرى نجد موسى ـ عليه السلام ـ في قلب المخافة، بعد فترة من الأمن. بل من الرفاهية. ونجده وحيداً مجرداً من قوى الأرض الظاهرة جميعاً، يطارده فرعون وجنده، ويبحثون عنه في كل مكان، لينالوا منه اليوم ما لم ينالوه منه طفلاً. 

ولكن اليد التي رعته وحمته هناك ترعاه وتحميه هنا، ولا تسلمه لأعدائه أبداً. فها هو ذا يقطع الطريق الطويل، ويصل إلى حيث لا تمتد إليه اليد الباطشة بالسوء...

**********

كانت مصادر تفسير هذا اللقاء :
(في ظلال القرآن)  (التفسير الميسر)  (تفسير السعدي)  (تفسير الجلالين)

*******
وإلى الملتقى إن شاء الله تعالى



الخميس، 23 مايو 2013

موسى عليه السلام- مرحلة الشباب



بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(موسى عليه السلام)
وبعض آيات من سورة القصص
(4)


 وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)

********

مرحلة الشباب

وبلوغ الأشد اكتمال القوى الجسمية . والاستواء اكتمال النضوج العضوي والعقلي . وهو يكون عادة حوالي سن الثلاثين . فهل ظل موسى في قصر فرعون , ربيبا ومتبنى لفرعون وزوجه حتى بلغ هذه السن ? أم إنه افترق عنهما , واعتزل القصر ,

وترد آيات سورة الشعراء على هذا التسائل :

قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ -18 وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ – 19

قال فرعون لموسى ممتنًا عليه : ألم نُرَبِّك في منازلنا صغيرًا , ومكثت في رعايتنا سنين من عُمُرك وارتكبت جنايةً بقتلك رجلًا من قومي حين ضربته ودفعته , وأنت من الجاحدين نعمتي المنكرين ربوبيتي ؟

********

وَدَخَلَ ٱلْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَـٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَـٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ, فَٱسْتَغَاثَهُ ٱلَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى ٱلَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ,فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ, قَالَ هَـٰذَا مِنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ - 15  

قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ - 16 قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ -17


********
وفي تفسير الجلالين

﴿ودخل﴾ موسى ﴿ المدينة ﴾ مدينة فرعون وهي منف بعد أن غاب عنه مدة ﴿ على حين غفلة من أهلها ﴾ وقت القيلولة ﴿ فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته ﴾ أي من بني إسرائيل ﴿ وهذا من عدوه ﴾ أي قبطي يسخره ليحمل حطبا إلى مطبخ فرعون.
 ﴿ فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه ﴾ فقال له موسى خل سبيله..
 فقيل إنه قال لموسى لقد هممت أن أحمله عليك..
 ﴿ فوكزه موسى ﴾ أي ضربه بجمع كفه وكان شديد القوة والبطش ﴿ فقضى عليه ﴾  أي قتله ولم يكن يقصد قتله ودفنه في الرمل..
 ﴿ قال هذا ﴾ أي القتل ﴿ من عمل الشيطان ﴾ المهيج غضبي ﴿ إنه عدو ﴾ لابن آدم ﴿ مضل ﴾ له ﴿ مبين ﴾ بين الإضلال..

********

ثم استطرد في فزع مما دفعه إليه الغضب , يعترف بظلمه لنفسه أن حملها هذا الوزر , ويتوجه إلى ربه , طالبا مغفرته وعفوه:

( قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ ). .

واستجاب الله إلى ضراعته , وحساسيته , واستغفاره:

(  فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ). .

وكأنما أحس موسى بقلبه المرهف وحسه المتوفز في حرارة توجهه إلى ربه , أن ربه غفر له .
والقلب المؤمن يحس بالاتصال والاستجابة للدعاء , فور الدعاء , حين يصل إرهافه وحساسيته إلى ذلك المستوى ; وحين تصل حرارة توجهه إلى هذا الحد . . وارتعش وجدان موسى - عليه السلام - وهو يستشعر الاستجابة من ربه , فإذا هو يقطع على نفسه عهدا , يعده من الوفاء بشكر النعمة التي أنعمها عليه ربه :

( قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ ). .

فهو عهد مطلق ألا يقف في صف المجرمين ظهيرا ومعينا . وهو براءة من الجريمة وأهلها في كل صورة من صورها . حتى ولو كانت اندفاعا تحت تأثير الغيظ , ومرارة الظلم والبغي . ذلك بحق نعمة الله عليه في قبول دعائه ; ثم نعمته في القوة والحكمة والعلم التي آتاه الله من قبل . وهذه الإرتعاشة العنيفة , وقبلها الإندفاع العنيف , تصور لنا شخصية موسى - عليه السلام - شخصية انفعالية , حارة الوجدان , قوية الاندفاع . وسنلتقي بهذه السمة البارزة في هذه الشخصية في مواضع أخرى كثيرة .

*******

اليوم التالي


فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ – 18  


ومر يوم وأصبح في المدينة خائفا من انكشاف أمره , يترقب الافتضاح والأذى .
ولفظ ( يترقب ) يصور هيئة القلق الذي يتلفت ويتوجس , ويتوقع الشر في كل لحظة . . وهي سمة الشخصية الانفعالية تبدو في هذا الموقف كذلك . والتعبير يجسم هيئة الخوف والقلق بهذا اللفظ , كما أنه يضخمها بكلمتي ( في المدينة ) فالمدينة عادة موطن الأمن والطمأنينة , فإذا كان خائفا يترقب في المدينة , فأعظم الخوف ما كان في مأمن ومستقر !

وحالة موسى هذه تلهم أنه لم يكن في هذا الوقت من رجال القصر . وإلا فما أرخص أن يزهق أحد رجال القصر نفسا في عهود الظلم والطغيان ! وما كان ليخشى شيئا فضلا على أن يصبح ( خائفا يترقب ) لو أنه كان ما يزال في مكانه من قلب فرعون وقصره .

وبينما هو في هذا القلق والتوجس إذا هو يطلع : ( فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه ) !

إنه صاحبه من بني إسرائيل الذي طلب بالأمس نصرته على القبطي . إنه هو مشتبكا مع قبطي آخر ; وهو يستصرخ موسى لينصره ; ولعله يريد منه أن يقضي على عدوهما المشترك بوكزة أخرى !

ولكن صورة قتيل الأمس كانت ما تزال تخايل لموسى . وإلى جوارها ندمه واستغفاره وعهده مع ربه . ثم هذا التوجس الذي يتوقع معه في كل لحظة أن يلحقه الأذى . فإذا هو ينفعل على هذا الذي يستصرخه , ويصفه بالغواية والضلال:

قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ.

غوي بعراكه هذا الذي لا ينتهي واشتباكاته التي لا تثمر إلا أن تثير الثائرة على بني إسرائيل . وهم عن الثورة الكاملة عاجزون , وعن الحركة المثمرة ضعفاء . فلا قيمة لمثل هذه الاشتباكات التي تضر ولا تفيد .
ولكن الذي حدث أن موسى - بعد ذلك - انفعلت نفسه بالغيظ من القبطي , فاندفع يريد أن يقضي عليه كما قضى على الأول بالأمس !
 ولهذا الاندفاع دلالته على تلك السمة الانفعالية التي أشرنا إليها , ولكن له دلالته من جانب آخر على مدى امتلاء نفس موسى - عليه السلام - بالغيظ من الظلم , والنقمة على البغي , والضيق بالأذى الواقع على بني إسرائيل .

فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ – 19

لقد طال الظلم ببني إسرائيل , فضاقت به نفس موسى - عليه السلام - حتى رأيناه يندفع في المرة الأولى

ويندم , ثم يندفع في المرة الثانية لما ندم عليه حتى ليكاد يفعله , ويهم أن يبطش بالذي هو عدو له ولقومه .
لذلك لم يتخل الله عنه , بل رعاه , واستجاب له , فالله العليم بالنفوس يعلم أن للطاقة البشرية حدا في الاحتمال . وأن الظلم حين يشتد , وتغلق أبواب النصفة , يندفع المضطهد إلى الهجوم والاقتحام . فلم يهول في وصف الفعلة التي فعلها موسى , كما تهول الجماعات البشرية التي مسخ الظلم فطرتها بإزاء مثل هذا العمل الفطري مهما تجاوز الحدود تحت الضغط والكظم والضيق .

ويبدو أن رائحة فاحت عن قتيل الأمس , وأن شبهات تطايرت حول موسى . لما عرف عن كراهيته من قبل لطغيان فرعون وملئه , إلى جانب ما يكون قد باح به صاحبه الإسرائيلي سرا بين قومه , ثم تفشى بعد ذلك خارج بني إسرائيل .

فلما أراد موسى أن يبطش بالقبطي الثاني واجهه هذا بالتهمة , لأنها عندئذ تجسمت له حقيقة , وهو يراه يهم أن يبطش به , وقال له تلك المقالة : ( أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس ? ).
أما بقية عبارته: ( إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين ). . فتلهم أن موسى كان قد اتخذ له في الحياة مسلكا يعرف به أنه رجل صالح مصلح , لا يحب البغي والتجبر . فهذا القبطي يذكره بهذا ويوري به ; ويتهمه بأنه يخالف عما عرف عنه . يريد أن يكون جبارا لا مصلحا , يقتل الناس بدلا من إصلاح ذات البين , وتهدئة ثائرة الشر . وطريقة خطابه له وموضوع خطابه , كلاهما يلهم أن موسى لم يكن إذ ذاك محسوبا من رجال فرعون . وإلا ما جرؤ المصري على خطابه بهذه اللهجة ,

والظاهر أن موسى لم يقدم على ضربه بعد إذ ذكره الرجل بفعلة الأمس , وأن الرجل أفلت لينهي إلى الملأ من قوم فرعون أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس..

*******
كانت مصادر تفسير هذا اللقاء :
(في ظلال القرآن)  (التفسير الميسر)  (تفسير السعدي)  (تفسير الجلالين)

*******
وإلى الملتقى إن شاء الله تعالى

الثلاثاء، 14 مايو 2013

قلب أم موسى بين الفراغ والرباط


بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(موسى عليه السلام)
وبعض آيات من سورة القصص
(3)

قلب أم موسى
بين الفراغ والرباط

وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12)

لقد سمعت الإيحاء , وألقت بطفلها إلى الماء . ولكن أين هو يا ترى وماذا فعلت به الأمواج ? ولعلها سألت نفسها:كيف ? كيف أمنت على فلذة كبدي أن أقذف بها في اليم ? كيف فعلت ما لم تفعله من قبل أم ? كيف طلبت له السلامة في هذه المخافة ? وكيف استسلمت لذلك الهاتف الغريب ?

والتعبير القرآني يصور لنا فؤاد الأم المسكينة صورة حية :

وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ..

وأصبح فؤاد أم موسى خاليًا من كل شيء في الدنيا إلا من همِّ موسى وذكره,
 وقاربت أن تُظهِر أنه ابنها لولا أن ثبتناها, فصبرت ولم تُبْدِ به ; لتكون من المؤمنين بوعد الله الموقنين به المؤمنين بوعد الله , الصابرين على ابتلائه , السائرين على هداه .

ولم تسكت أم موسى عن البحث والمحاولة ..

وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ..

اتبعي أثره , واعرفي خبره , إن كان حيا , أو أكلته دواب البحر أو وحوش البر . . أو أين مقره ومرساه ?

وذهبت أخته تقص أثره في حذر وخفية , وتتلمس خبره في الطرق والأسواق . فإذا بها تعرف أين ساقته القدرة التي ترعاه ; وتبصر به عن بعد في أيدي خدم فرعون يبحثون له عن مرضع  :

وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ.

إن القدرة التي ترعاه تدبر أمره , وتكيد به لفرعون وآله ; فتجعلهم يلتقطونه , وتجعلهم يحبونه , وتجعلهم يبحثون له عن مرضع , وتحرم عليه المراضع , لتدعهم يحتارون به ; وهو يرفض الثدي كلما عرضت عليه , وتمر الساعات دون رضاع ...
ولكنها بركة الله في أخر رضعة, إذ كانت بأمر من الله مباشرة : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ. ) فكيف تمر ساعات ولا يشعر الطفل بالجوع أو العطش ولا يبكي ولا ينفر أحدا ممن ينظرون إليه ولا يرفعون نظرهم عنه..حبا ( وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي. )
 وتمر الساعات وهم يخشون عليه الموت أو الذبول ! حتى تبصر به أخته من بعيد , فتعرفه وتتيح لها القدرة فرصة لهفتهم على مرضع , فتقول لهم :

هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ.؟

فيتلقفون كلماتها , وهم يستبشرون , يودون لو تصدق فينجو الطفل العزيز المحبوب !

*******

مشهد أم موسى وقد عاد إليها وليدها


فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)

لقد عاد الطفل الغائب لأمه الملهوفة . معافى في بدنه , مرموقا في مكانته , يحميه فرعون , وترعاه امرأته .

﴿ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ ﴾ كما وعدناها بذلك ﴿ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ ﴾ بحيث إنه تربى عندها على وجه تكون فيه آمنة مطمئنة، تفرح به، وتأخذ الأجرة الكثيرة على ذلك..
﴿ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾ فأريناها بعض ما وعدناها به عيانا، ليطمئن بذلك قلبها، ويزداد إيمانها، ولتعلم أنه سيحصل وعد اللّه في حفظه ورسالته..
﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ 

 فاستمر موسى عليه الصلاة والسلام عند آل فرعون، يتربى في سلطانهم، ويركب مراكبهم، ويلبس ملابسهم، وأمه بذلك مطمئنة، قد استقر أنها أمه من الرضاع،
ولم يستنكر ملازمته إياها وحنوها عليها.
وتأمل هذا اللطف من الله تعالى، وصيانة نبيه موسى . حيث عاد إلى حضن أمه ، الذي بان للناس أنه هو الرضاع، الذي بسببه يسميها أُمَّا، فكان الكلام الكثير منه ومن غيره في ذلك كله، صدقا وحقا.


فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)

***********
كانت مصادر تفسير هذا اللقاء :
(في ظلال القرآن)
 (التفسير الميسر)
 (تفسير السعدي)

وإلى الملتقى إن شاء الله تعالى

الأحد، 12 مايو 2013

أنبياء الله في القرآن العظيم - موسى عليه السلام-2



بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(موسى عليه السلام)
وبعض آيات من سورة القصص
(2)

وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ..

تبدأ القصة في سورة القصص منذ ميلاد موسى عليه السلام, ذلك أن الحلقة الأولى من قصة موسى , والظروف القاسية التي ولد فيها ; وتجرده في طفولته من كل قوة ومن كل حيلة ; وضعف قومه واستذلالهم في يد فرعون . .

ذلك كله هو الذي يؤدي إلى الهدف الرئيسي من القصة ; ويبرز يد القدرة ظاهرة متحدية تعمل وحدها بدون ستار من البشر ; وتضرب الظلم والطغيان والبغي ضربة مباشرة عندما يعجز عن ضربها البشر ; وتنصر المستضعفين الذين لا حول لهم ولا قوة ; وتمكن للمعذبين الذين لا حيلة لهم ولا وقاية .

وهو المعنى الذي كانت القلة المسلمة المستضعفة في مكة في حاجة إلى تقريره وتثبيته ; وكانت الكثرة المشركة الباغية الطاغية في حاجة إلى معرفته واستيقانه .

إن الشر حين يتمحض يحمل سبب هلاكه في ذاته ; والبغي حين يتمرد لا يحتاج إلى من يدفعه من البشر ; بل تتدخل يد القدرة وتأخذ بيد المستضعفين المعتدى عليهم , فتنقذهم وتستنقذ عناصر الخير فيهم , وتربيهم , وتجعلهم أئمة , وتجعلهم الوارثين .

حفظ الله لموسى الرضيع وإعادته إلى أمه .

تبدأ القصة . ويبدأ التحدي وتنكشف يد القدرة تعمل واضحة بلا ستار:
لقد ولد موسى في ظل تلك الأوضاع القاسية التي رسمها قبل البدء في القصة ; ولد والخطر محدق به , والموت يتلفت عليه , والشفرة مشرعة على عنقه , تهم أن تحتز رأسه . .

وها هي ذي أمه حائرة به , خائفة عليه , تخشى أن يصل نبؤه إلى الجلادين , وترجف أن تتناول عنقه السكين ها هي ذي بطفلها الصغير في قلب المخافة , عاجزة عن حمايته , عاجزة عن إخفائه , عاجزة عن حجز صوته الفطري أن ينم عليه ; عاجزة عن تلقينه حيلة أو وسيلة . .

ها هي ذي وحدها ضعيفة عاجزة مسكينة .

هنا تتدخل يد القدرة , فتتصل بالأم الوجلة القلقة المذعورة , وتلقي في روعها كيف تعمل , وتوحي إليها بالتصرف :

وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)

فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)

وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)


يا لله ! يا للقدرة ! يا أم موسى أرضعيه . فإذا خفت عليه وهو في حضنك . وهو في رعايتك . إذا خفت عليه وفي فمه ثديك , وهو تحت عينيك . إذا خفت عليه ( فألقيه في اليم )!!

( ولا تخافي ولا تحزني ) إنه هنا . أو في اليم . . في رعاية التي لا خوف معها . اليد التي لا تقرب المخاوف من حماها . اليد التي تجعل النار بردا وسلاما , وتجعل البحر ملجأ ومناما . اليد التي لا يجرؤ فرعون الطاغية الجبار ولا جبابرة الأرض جميعا أن يدنوا من حماها الآمن العزيز الجناب .

( إنا رادوه إليك ). فلا خوف على حياته ولا حزن على بعده .( وجاعلوه من المرسلين ). .
وتلك بشارة الغد , ووعد الله أصدق القائلين .

هذا هو المشهد الأول في القصة . مشهد الأم الحائرة الخائفة القلقة الملهوفة تتلقى الإيحاء المطمئن المبشر المثبت المريح .

 وينزل هذا الإيحاء على القلب المؤمن الواجف المحرور بردا وسلاما .

وينتقل المشهد مع موسى وهو في التابوت وقد أمر اليم أن ينقله إلى الساحل حيث قصر فرعون.
قال تعالى في سورة طه :  أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ .

فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ.

وتمر الخواطر في رأس الإنسان العادي ..
أهذا هو الأمن ? أهذا هو الوعد ? أهذه هي البشارة ?

وهل كانت المسكينة تخشى عليه إلا من آل فرعون ?

 وهل كانت ترجف إلا أن ينكشف أمره لآل فرعون ? وهل كانت تخاف إلا أن يقع في أيدي آل فرعون ?

نعم !  ولكنها القدرة تتحدى بطريقة واضحة جلية .
تتحدى فرعون وهامان وجنودهما . إنهم ليتتبعون الذكور من مواليد قوم موسى خوفا على ملكهم وعرشهم وذواتهم . ويبثون العيون والأرصاد على قوم موسى كي لا يفلت منهم طفل ذكر . .

 فها هي ذي يد القدرة تلقي في أيديهم بلا بحث ولا كد بطفل ذكر . وأي طفل ? إنه الطفل الذي على يديه هلاكهم أجمعين !

ها هي ذي يد القدرة تلقيه في أيديهم مجردا من كل قوة ومن كل حيلة , عاجزا عن أن يدفع عن نفسه أو حتى يستنجد !

 ها هي ذي يد القدرة تقتحم به على فرعون حصنه وهو الطاغية السفاح المتجبر , ولا تتعبه في البحث عنه في بيوت بني إسرائيل , وفي أحضان نسائهم الوالدات !

لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً.

ليكون لهم عدوا يتحداهم وحزنا يدخل الهم على قلوبهم :

إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ.

ولكن كيف ? كيف وها هو ذا بين أيديهم , مجردا من كل قوة , مجردا من كل حيلة ? لندع السياق يجيب :

وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ.

لقد اقتحمت به يد القدرة على فرعون قلب امرأته , بعد ما اقتحمت به عليه حصنه . لقد حمته بالمحبة . ذلك الستار الرقيق الشفيف .
 لا بالسلاح ولا بالجاه ولا بالمال . حمته بالحب الحاني في قلب امرأة .
قال تعالى في سورة طه : وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي  - 39

وتحدت به قسوة فرعون وغلظته وحرصه وحذره . . وهان فرعون على الله أن يحمي منه الطفل الضعيف بغير هذا الستار الشفيف !

قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ..

وهو الذي تدفع به يد القدرة إليهم ليكون لهم - فيما عدا المرأة - عدوا وحزنا :

لَا تَقْتُلُوهُ ..

***********
كانت مصادر تفسير هذا اللقاء
     ( في ظلال القرآن )

وإلى الملتقى إن شاء الله تعالى